لماذا خلقنا الله ؟, في الحقيقة لا يثيرني هذا السؤال بقدر ما يثيرني لماذا لا يرتاح العقل لأي من الإجابات التي قدمت إليه!
فهذا السؤال أبدي والإجابات أيضا أبدية ومع ذلك لا يزال السؤال مطروحا .. وهذا يجعل السؤال الحقيقي هو لماذا لا يرتاح العقل لأي من الإجابات .. لماذا هو في قلق ؟!
والجواب يقودنا إلى البحث عن أسباب طرحه لدى طارحيه والذين يمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات :
الفئة الأولى :
هي الفئة التي في الغالب تمر بأزمات نفسية متعلقة باكتشاف الذات والشغف والإهتمام والأهداف .
إنهم هؤلاء الذين لا يشعرون بأي قيمة في حياتهم أو ليس لديهم أهداف مشبعة لرغباتهم ليس لأن رغباتهم غير قابلة للإشباع ولكن لعدم قدرتهم على معرفة ماذا يريدون؟
وعندئذ يبدأون في طرح التساؤلات الوجودية عن معنى الحياة وغاية الوجود والغرض من الإيجاد أو باختصار : لماذا خُلقنا؟
الفئة الثانية:
ربما تكون منبثقة من الفئة الأولى وهم (الملحدون ومن على شاكلتهم) وهؤلاء يتسائلون من قبيل السفسطة لا بهدف البحث الجاد .
الفئة الثالثة:
هم الذين يرون أنهم يجب ان تكون لديهم الإجابة على هذا السؤال ، وهم يحسبون انهم أهل الاستحقاق بالنسبة للإجابة إما لانهم مفكرون متأملون بطبعهم ، وإما لأنهم متدينون "مؤمنون" والمتدين في نظرهم هو شخص يجب أن يملك الإجابة على الأسئلة الوجودية . لذا هو يسأل لتتوفر لديه إجابة في جعبته يخرجها عند اللزوم (عند الاحتكاك بالفئة الأولى أو غيرهم)
وكان يجب ان تكون تلك الفئة الأخيرة أكثر استقرارا وأقل قلقا لأن الإجابة التي لديهم مستوحاه من نصوصهم المقدسة ! وبحثهم وتساؤلهم ليس عن شغف حقيقي للمعرفة
ولكن .. وبالرغم من ذلك لا يزالون يترقبون إجابة جديدة كل مرة في فضول . ويسارعون لقراءة مثل هذه المقالات لعلها تقدم حججا جديدة , فهل هم في قلق من حججهم وأجوبتهم التقليدية ! ربما ..
حسنا .. فما هو الجواب إن لم نكن خلقنا حقا للعبادة والإستخلاف وإعمار الأرض .
إن الإستخلاف وإعمار الأرض لا يمكن أن تكون غاية ، فالله ليس أميرا إقطاعيا يستزيد من العبيد ليعملوا في قطعة الأرض التي استقطعت له .
كما أن القول أنه خلقنا للعبادة يوقعنا في حيرة حول لماذا إذن لم يقهرنا على عبادته وأختار الترويع والتخويف بالنار والعذاب لمن يعصي كوسيلة لحمل الخلق (وتحديدا البشر) على الطاعة ؟!
وهذه الحيرة والتساؤلات قد يراها المتدينون متعارضة مع النصوص الصريحة التي تذكر بان الله سبحانه خلقنا لعبادته وانه خلقنا من الأرض واستعمرنا فيها .
وهنا إشكالية يجب حلها .. وهي أن هناك فرق بين التكليف وبين الغاية .
فالعبادات .. تكليفات .. ولكنها ليست غاية في ذاتها بل الغاية هي الخضوع للإله والتواصل معه وهو ما يحتاج إلى تفريغ القلب والنفس أو الروح من علائق الدنيا ((يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم)) وهذا التطهير أو التطهر وسيلته هو تلك العبادات
(( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)) قرآن كريم .
(( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)) قرآن كريم .
من هاتين الآيتين السابقتين من القرآن الكريم يتبين أن عملية التطهر في الإسلام مثلا تركز على قطع علائق الجسد من الفحش والمنكر والبغي وعلائق النفس من الأنانية والتكبر والعظمة والغرور فآتاها في أعز ما أخترعته تلك الصفات على مدى التاريخ البشري (حق الملكية) فالأرض خلقها الله مشاعا بين البشر إلا أن البشر أبوا إلا أن يخترعوا ((الملكية)) والأموال .
والآن ماذا بعد التطهر والوصول إلى حال القلب السليم؟ أننا لم نخُلق لذاتنا .. ولتحقيق متعتنا أو تلبية حاجة لدينا لأننا قبل أن نخلق لم يكن لنا حاجة لشيء ! وبالتالي فالذي خلقنا هو الذي لديه عله الخلق
فإذا كان الإله لا يحتاج , ولا يعاني من نقص .. فلماذا ؟
وهنا أيضا إشكالية يجب حلها .. وهو الربط بين الفعل وبين الحاجة ؟
فليس كل فعل غرضه تحقيق أو اشباع حاجة أو نقص .. وليس للتجريب لأن المجرب ينقصه العلم فهو يكمله بالتجربة والسعي إلى المعرفة . لذا لن ننظر إلى العلماء كمثال مقرب لأشخاص يفعلون ليعرفون أو ليكتشفون .
بل الأقرب للتمثيل هم المبدعون , هذا يؤلف موسيقى وذاك ينظم قصيدة وآخر يرسم لوحة .. يفعلون ذلك ولو بغير أجر وسواء وجد جمهور أو لم يوجد .. بل من المبدعين من يضن ببعض إبداعاته عن الجمهور ويخص بها نفسه فقط .
والله سبحانه وتعالى هو (مبدع) وهو إله عند ما أبدعه .. وإذا كانت القصائد والآلحان واللوحات المرسومة لا تسأل لماذا وجدنا؟ فإن الإنسان يتسائل لماذا وجِدت؟ والفرق لأن الإنسان له عقل مفكر
فالتساؤلات الوجودية إذن هي من فيض العقل وعمل الفكر .. ولا يملك الانسان نحوها تغييرا .. سوى أنها أما خطوة في طريق اكتشاف الذات والشغف لدى الفئة الأولى لذا فأي اجابة لن ترضيهم متى كانت لا تساعد في التقدم للأمام نحو هذا الكشف.
وإما تكون خطوة نحو مزيد من السفسطة والجدال البيزنطي لدى الفئة الثانية وواحدة من الاجابات التي سيضيفها أصحاب الفئة الثالثة في جعبتهم لاستعمالها عند اللزوم .
وإلى هذه الفئة الأخيرة اسمحوا لي أن أضيف إلى ما لديكم الآتي :
إذا كان الله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم "وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون" وأن أغلب التفاسير على أن معناها أي لأمرهم بعبادتي .. فهذا يجعل السؤال لا يزال مطروحا وهو حول الغاية من تلك العبادة طالما أنه (الله) لا يعاني نقصا أو احتياجا
والاجابة أنه لا عبادة بدون معرفة إذ أن عبادة لله وترك عبادة غيره تستلزم معرفة الله أولا
ثم بعد المعرفة تأتي العبادة التي دورها هو تفريغ الانسان من العلائق المادية والنفسية لتجعله أهلا ليكون من مخلصين الإله ..
ads