هل يجب على الدين أن يكون واقعياً أم مثالياً ؟!

0
الدين بين الواقعية والمثالية 
ليس كل مثالي قابل للتطبيق , وعدم مرونته تتناسب عكسيا مع عدد الخارجين على تطبيقه
فكلما كان جامدا غير مرن كان الخارجين عليه أكثر من الملتزمين به
فالصدق قيمة مثالية .. ولكن أنظر كم عدد الكذابون !!
الأمانة قيمة مثالية .. ولكن أنظر كم عدد ما يصلح لأن تأتمنه 
وهنا نطرح سؤالين في غاية الأهمية :

ما معنى المثالية؟
وهل يجب على الدين أن يكون مثاليا؟


اجابة الأول : 
أصل مصطلح المثالية جاء من كلمة "فكرة" وأصلها الإغريقي إيدين idein، ويعني «إدراك». 
وفلسفيا يعرفها البعض بأنها: 
كمالُ الأوصاف وَالأمداح، بمعنى خلوها من أي نقطة ضعف.
ثم اختلف الفلاسفة حولها ما بين هل هي الأفكار المجردة التي تعريفها جاء من خارج فكر الانسان كأن يكون مصدرها إلهي مثلا  وبالتالي فإنها سابقة على وجود الإنسان
أم أنها عبارة انتاج فكري ذهني محض وهنا هل هي متصلة بالحدس والتجربة الشعورية أم هي تطبيق لما رآه العقل  .. للمزيد راجع الرابط التالي (ويكيبديا
"هذا وتأخذ المذاهب المادية، على المذهب المثالي عدم واقعيته وإغفاله للتناقضات المادية التي تحرك المجتمعات وتحدد صيرورتها".

على كل حال يمكن وباختصار الوقوف على اعتبار المثالية أنها الأوصاف لما يخلو من الضعف .
والإنسان كما نعلم خلق ضعيفا لذلك فهو تواق للكمال 
ووظيفة الأديان يجب أن تكون مساعدة الإنسان على بلوغ الكمال 
فكيف تفعل ذلك ؟
دعنا نقول أن الإنسان في الحياة كما رجل يسبح في البحر يوشك على الغرق والسؤال الملح الآن هو كيف ننقذه؟ 
والدين هنا مثل (حارس الشاطىء) وجب عليه انقاذه 
أيا كانت الطريقة التي سوف يحاول انقاذه بها سواء بالسباحة أو بواسطة قارب ففي كل حال على الحارس أن "يتوجه" إليه بوسيلة صالحة لانتشاله من الغرق ..
هذه الوسيلة بكل حال لا يجب أن تكون في شكل نصائح سامية مع حالته تلك التي تجعله يتجاهلك تماما ولا يستجيب لك في ظل صراعه المرير مع الأمواج 
وإنما يجب أن تمد إليه يدك أو وسيلتك لتنقذه , أما اذا كنت توجهت إليه سباحة فعليك أن تنخفض قليلا لتحتضنه وترفع رأسه وتسبح به عائدا 
لا سبيل مؤكد لاستجابته وتجاوبه معك لانقاذه سوى ذلك .. 
وهنا تكون أنقذت غريقا وهذه "مثالية" بطريقة ملائمة وهذه "واقعية"
هكذا يجب أن يكون الدين .. يرنو إلى تحقيق الأهداف المثالية بالوسائل الواقعية 
وكلما كانت وسائله واقعية (أكثر ملائمة) كلما حقق نتائج أفضل ووصل إلى شاطىء الآمان بعدد أكبر من الغرقى 
فإن لم تكن الأديان لها وسائل واقعية لبلوغ المثاليات .. تجاهلها الناس .. وعلى قدر ما تمتلك منها يكون عدد التابعين لها 
لذلك نرى العالم المتقدم بعيد عن الدين وتكثر فيه  جرائم الانتحار .. إذ أن المسيحية  فضلا عن آياتها العلمية المخالفة للعلم والتي نتج عنها صراع دامي بين العلوم الكنسية والعلوم الدنيوية فكل من يرى أن كوكب الأرض ليس مربعا وأنه ليس مركز الكون فهو مرطق يجب حرقه حيا !
فإنها أيضا على المستوى التشريعي كانت متصادمة مع الواقع
فهي وإن كانت تطبيقا للوصايا العشر بمثاليتها المنشودة ولكنها لم تراعي الواقعية
فما أجمل أن "لا تزن" ولكن تلك الشريعة لم تكتفي بالزنا المعروف فجعلت الطلاق زنا , تعدد الزوجات زنا, والنظرة بشهوة زنا .. والزاني محروم من الملكوت 
وهنا لجأ الأوربيون إلى الزواج والطلاق المدني بعيدا عن تعاليم الكنيسة واقتصارهم على زوجة واحدة هو إلتزام قانوني لا ديني .. فيمكن للرجل أو المرأه أن يكونان متزوجان قانونيا من آشخاص غير الذين يعاشرونهم فعلا 
في حين أن الزنا وهو محرم في الإسلام أيضا .. ولكن الشريعة الإسلامية كانت مرنة تجاه الطلاق وتجاه تعدد الزوجات للرجل .
وفي حين أن الأرملة يمكنها الزواج بعد وفاة الزوج دون أن يكون ذلك زنا .. 
فهناك أديان أخرى بآسيا تقوم بحرقها حية مع جثمان زوجها فليس من حقها أن تعاشر زوجا آخر والموت هو الضمان لذلك !.

كذلك وكما أن "لاتسرق" فكرة مثالية والسرقة محرمة في الأديان السماوية وحتى في القرآن يعاقب عليها بقطع اليد .. 
ولكن القرآن الذي يرفع من شعار نفي الأثم عند الضرورة جعل نبيه يضع للشيء المسروق نصابا وجعل العقوبة تتدرج في حالات ارتكاب الأثم بسبب ضرورة على حسب قدر هذه الضرورة وكلما كانت الضرورة ملحة وتشكل خطرا وتهديدا كلما تم تخفيف العقوبة وربما إلى حد الإعفاء من العقاب !
وهكذا فإن مرونة التشريع والأخذ بعذر الضرورة هي وسائل واقعية تجعل الدين أكثر قابلية للتجاوب والتعاطي معه في حياة الناس (في الواقع) .
على أن الدين لا يجب أن يكون مغرقا في الواقعية حتى لا يغرق هو اثناء محاولته انقاذ الإنسان من الغرق 
كما يجب أن ينبه على أن المرونة المسموح بها هي خروج على الأصل فمن استطاع أن يتجنب الأعذار كان أفضل له في سلم الإرتقاء نحو المثالية .

وتحقيق المثالية تبدو فكرة خيالية أكثر منها فكرة واقعية .. وبلوغ الكمال أمر عسير ونادر في البشر .. والتصميم على أنه لن يدخل الملكوت إلا من كان مثاليا ربما تجعل الذين لم يبلغوا هذا الحد يقعون في اليأس فيبتعدون عن مواصلة الارتقاء فيهبطون إلى الرزائل باعتبار أن غايتهم المثالية لا يمكنهم إدراكها 
وهنا نعود إلى مثال الإنسان الغريق .. فليس معنى وصولك إليه لانقاذه أن تتركه إذا وجدته ناقصا اثناء صراعه مع الغرق .. لقد ابتلت ثيابه .. لقد ضاع بعضها .. لقد فقد حذاؤه .. لقد شل ذراعه من شدة مصارعة الأمواج .. لقد فقد بصره .. تسلل الماء إلى أذنيه لم يعد يسمع .. هل كان حارس الشاطىء ليتركه ؟!
بل يجب انقاذه ثم محاولة اسعافه بقدر ما تسمح به حالته .. 
إذن ليس مهما أن أعيده إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقع في الماء .. المهم أن أعيده إلى أقصى ما يمكنه أن يصل إليه 
وعلى هذا يجب أن تكون غاية الدين من المثالية أيضا غاية واقعية مرنة تجعل من أقصى حالة يمكن أن يصل إليها كل انسان هي المثالية المنشودة له 
فالسعي نحو الكمال هو للإنسان الكمال ، لأن الإنسان لن يمكنه أن يبلغ المثالية بمعناها الذهني المجرد .. 
إن رجل عاش حياته يصوم يوما ويفطر يوما , وآخر عاش حياته يصوم شهرا واحدا كل عام , ورجل يتصدق كل شهر بربع ماله ؟, وثاني بنصفه , وآخر بجله ولا يبقى إلا القليل الذي يقيم أوده ... الجميع بلغ المثالية من نفسه ..
وتذكروا بأن رجلا تصدق بواحد جنية هو رجل مثالي بالنسبة لرجل تصدق بعشرة جنيهات إذا كان الأول لا يملك إلا جنيهان في حين الثاني يملك مليون جنيها !!
فالكمال والمثالية إذن درجات فالعبرة ليست في بلوغ المثالية وإنما في مقدار السعي إليها مقارنة بما يستطيعه الساعي 
ومما سبق نخلص إلى نتائج :
أولا: على الأديان أن تكون هادفة إلى المثالية بوسائل واقعية لا تصطدم مع متطلبات الحياة
ثانيا: المثالية الدينية يجب أن تكون في كمال السعي وليس في كمال الوصول أي تكون حسب طاقة الإنسان المبذولة .. فإءا كان في طاقته وسع لم يبذله بعد فهو لم يبلغ الكمال أو "المثالية" 
وإلا فعلى أي شيء تقدم المنظمات والجمعيات والمؤسسات للحاصل على المركز الثاني والثالث والرابع والخامس جائزة إذا كانوا لم يصلوا للمركز الأول !!
أنها جائزة السعي وليست جائزة الوصول .. 
فحتى الساعون إلى النجاح فائزون وإن لم يبلغوا المركز الأول 
وإن كانوا بالطبع لا يستوون 
وهذا ما يجب على منظومات الأديان أن تلتزم به أيضا وإلا سوف يفقدون أصحاب المراكز التالية للمركز الأول وسيفقدون كل من يرى أنه لن يستطيع بلوغ المركز الأول والذي لن يفكر حتى في الاشتراك في السباق وتخسر الأديان أكثرية البشر وتتركهم يستسلمون للشرور فتكون بذلك قد شجعتهم على الشر على عكس ما جاءت لتحقيقه .
فالذي خرج من الماء دون ذراعه قد نجا , والذي خرج من الماء دون قدمه قد نجا , والذي خرج من الماء فاقدا سمعه قد نجا .. 
والإسلام يضع تطبيقا جميلا لذلك حين يقرر "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" .. ومع بذل الوسع حتى منتهاه يظل الإنسان يشعر بأنه مقصر "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا" 
وهذه هي المثالية التي يجب أن ينشدها الدين وهي أن يبذل الإنسان أقصى وسعه في سعيه نحو الكمال .. فأقصى وسعه هو الكمال لأن الدين لا يجب أن يكلفه أكثر من وسعه وإلا كان يطلب مستحيلا وطالب المستحيل سوف يهجره الناس 
بقلمي / أحمد الأسيوطي

ads

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)