إن الإسلام دعوة إلى مكارم الأخلاق، وإلى السمو الروحي والأخلاقي, والاجتماعي..
فهو دعوة إصلاحية.. جاءت لإصلاح الخلل والعطب في حياة الإنسان ومسلكه, لتضع من الضابط الأخلاقي معيارا ليقيس عليه الإنسان أفعاله: فهو ببساطة يدعوك إلى أن تفعل كل ما هو أخلاقي, وأن تجتنب غير الأخلاقي, وأن تجتنب كذلك كل ما يضر بأفراد المجتمع الآخرين.
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" حديث شريف
ودعوة الأخلاق، دعوة تربوية, اجتماعية, وقد راعى الإسلام في ذلك أنه جاء ليغير سلوكا بشريا اعتاد الانحراف، وتغيير السلوك الذي أصبح عادة, لا يتم قسرا، بل بالتدرج، حتى يعتاد الفرد سلوكا جديدا منتزِعا السلوك القديم،
لذلك اتبع الإسلام منهجية التدرج في نقل الفرد و المجتمع، من سلوك إلى سلوك، ومن حال إلى حال..
فكما نعلم أنه لا يمكنك تطبيق دعوة مثالية دفعة واحدة.. إنما عليك بالتدرج. فدعوة احترام العقل الإنساني وتكريمه كمثال.. تعني إلغاء كل ما يشكل عدوانا عليه وبشكل فوري وحاسم.. ولكن لانزال هذه الدعوة إلى الواقع يحتاج الأمر إلى.. تدرج..
فتحريم الخمر مثلا.. جاء بعد تدرج في الأحكام لأنه هنا يستأصل عادة متمكنة في النفوس.
وقد يطول زمن التدرج وقد يقصر حسب المجتمع وظروفه وعوامله الاقتصادية والاجتماعية، ومدى سرعة استجابتها للتغير والتطور..
فالقضاء على عادة الخمر أخذ فترة زمنية قصيرة.. قياسًا إلى عادة الرق؛ نظرا لتوغلها وتشعبها وارتباطها بعوامل أخرى..
***
الرق واستعباد الإنسان في هذا العصر لم يكن مجرد فكرة، بل هو عصب النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في ذلك الحين.
والرقيق هو العنصر الإيجابي في الاقتصاد في ذلك الزمن (الأيدي العاملة)، وهو الرفاه الاجتماعي (رقيق المنزل)، وهو كماليات التسري (ملك اليمين).. وهو رمز الثقل السياسي (رقيق الأسر).. إلخ.
فالدعوة الإسلامية التي تقوم على فكرة تكريم الإنسان، وأن الناس سواسية حتى تتم، كان عليها أن تنتزع الرقيق من أسر الاستعباد انتزاعا متدرجا، رحيما بالسيد والعبد, نعم الأمر مثل التدخين، فكما لا تستطيع منع المدخن من التدخين فورا، كذلك العبد لا يمكنك انتازعه من الرق فورا دون تمهيد الظروف لذلك.. حتى تضمن استجابة الناس إليه.
فقد حاول "سبارتاكوس" في دولة اسبرطة الإغريقية تحرير العبيد فورا, وفر هاربا وكون جيشا لمجابهة المجتمع بالقوة، فكانت النتيجة أن تعرض للهزيمة وظل الرق سائدا لآلاف السنين من بعده!!
حدث ذلك قبل بعثة النبي محمد كما حدث بعد بعثة النبي محمد بمئات القرون, فالحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية كان من أهم أسباب اندلاعها هو إلغاء الرقيق.
ورغم نجاحها في إلغاء الرق بعد هذه الحرب، لكن ظل التمييز العنصري قائما لمائة عام أخرى وكان تمييزا يتم بموجب القانون، فكان السود طوال هذه المدة كالرقيق للنظام بأكمله، فمن بين القوانين مثلا قانون ينص أنه على الرجل الأسود أن يترك مقعده في المواصلات للرجل الأبيض!!
***
فالتدرج إذن هو الحل للقضاء على هذه العادة، لأننا نستأصل عادة اجتماعية، ونغير نظاما اقتصاديا وننشئ مجتمعا جديدا، فوجب أن يكون الحل هادئا متدرجا, فقام الإسلام في سبيل ذلك بالآتي :
أولا: تمليكهم أهم الحقوق الإنسانية
1- الكرامة الإنسانية، وسماهم بالإخوان في الدين، وساوى بينهم في الوقوف بين يدي الله، فكان العبد الأسود يؤم السادة الأحرار في الصلاة!!
في حين كانت أمريكا حتى النصف الثاني من القرن العشرين تجعل للسود كنائس منفصلة عن البيض
2- إثبات نسب الأبناء الذين يولدون من الأَمَة، ومنحها حقوقا قريبة من حقوق الزوجة الحرة.
3- حسن المعاملة، كأن فرض للرقيق حق في مال سيده، من كسوة وغذاء وسكن على أن يكون من نفس ما يحصل عليه الرجل الحر،لا أن يلبسه من ثيابه البالية.
4- النهي عن إكراه الإماء على ممارسة البغاء..!
***
وهنا قد يسأل أحدهم سؤال : لماذا يبيح الإسلام للرجل أن يطأ ملك يمينه؟
الجواب: لقد جاء الإسلام وهذا الوضع قائم، ومباح، ومشروع, وبلا حقوق.... ومنع المباح المتأصل في النفوس كما ذكرنا لا يكون إلا بالتدرج..
هذا التدرج جاء من خلال منحهم حقوقًا تساهم في رفع شأنهن أولًا, وتمهد لعتقهن ثانيًا..
كيف ذلك؟
ملك اليمين لا تباع، فصارت بذلك أرقى من الجارية.
ملك اليمين لا تورث كالمال فتحرم على أبناء الزوج.
ملك اليمين التي تلد ولدا، يكون له كامل الحقوق التي لأبناء سيدها من زوجته الحرة ,وهذا مهد أيضًا لعتقها.
ملك اليمين تصبح حرة بوفاة سيدها.
هذه الحقوق سمحت لأبناء ملك اليمين أن يصبحوا خلفاء على المسلمين، فالخليفة المأمون أمه ملك يمين فارسية، والخليفة المعتصم بالله أمه ملك يمين رومية.
***
ثانيا : تمليك الرقيق أنفسهم "مكاتبة الأرقاء":
وهو نظام ابتدعه الإسلام، حيث سمح للعبد أن يشتري حريته من سيده بمال يدفعه على آجال "أقساط" وبذلك يصبح حرا.
***
ثالثا: تحرير رقبة عقوبة وصدقة:
يثير البعض شبهة عدم وجود نص محرم للرق, كدليل على رضا الإسلام به, وهذا استنتاج يجانبه الصواب لأنه بالنظر إلى طريقةمعالجة الإسلام لظاهرة الرق نجدها معالجة كفيلة بالقضاء عليها, وليس معالجة من شأنها العمل على إزدهاره..
لقد جعل من تحرير الرقيق قربة لله, وكفارة من الذنب, وهو تعويض أكثر من عادل لمن يريد التقرب إلى خالقه أو محو ذنبه !
فمن منظور قانوني أن إلغاء الرق يساوي في القانون نزع ملكية الأفراد , لأن الرقيق هو في حقيقته مال (من الممتلكات) ونزع أحد الممتلكات يجب أن يصاحبه تعويض كما تفعل الحكومات , وقد جعل الاسلام التقرب إلى الله, والتكفير عن الذنوب هو ذلك التعويض
ومن ثم ..يمكن القول وبحق .. أن المعالجة التي اتبعها الإسلام مع الرق هي نفسها التي تتبعها القوانين الحديثة في نزع الملكية الفردية ولكن بمعالجة دينية متدرجة ملائمة لواقع الحال.
***
ولكن فترة القضاء على الرق للأسف طالت لأن العبيد ظل هو العنصر الاقتصادي الأول في العالم، وليس في الدولة الاسلامية فقط
فتأخر انتهاء الرق جاء لأسباب عالمية لا دخل للإسلام ولا لبلاد المسلمين خاصة فيها..
مما سبق:
تبين لنا أن الإسلام دعوة أخلاقية إصلاحية، اتخذت من منهج التدرج وسيلة للإحلال والتجديد الأخلاقي، بحيث لم يكن أنفع للمجتمع في حينها من ذلك الأسلوب، والذي أصبح منهجا عالميا في التربية السلوكية "منهج التدرج".
ads